Hit Counter

 

 الصفحة الرئيسية

 

مركزية فلسطين والمشروع الإسلامي المعاصر

للشهيد الدكتور فتحي الشقاقي

 

تقديم:

القضية الفلسطينية هي بدون شك أهم قضايا الوطن الإسلامي في هذه المرحلة من تاريخه ، فعبر أربعة قرون كاملة ـ حتى الآن ـ كان تأثيرها يشمل كل الساحات العربية والإسلامية  القريبة منها والبعيدة عنها ، عبر أربعة عقود كاملة كان ما يجري في فلسطين مصدر ألم عميق لكل المسلمين في العالم ومصدر جيشان عاطفي غلاب بالنسبة لهم ، وبقي (تحرير القدس ) حلماً مشتركاً لمليار مسلم رغم اختلاف مواقعهم الجغرافية والفكرية ورغم اختلاف لغاتهم وأعراقهم. عبر أربعة عقود من التعامل مع فلسطين صعد الكثيرون من الحكام أو هبطوا ، تغيرت أنظمة وهيمنت اتجاهات فكرية وحزبية ، أو تراجعت ، كما سقط مئات الألوف من الشهداء وأهدرت ثروات الأمة باسم فلسطين أو رهنت مقدراتنا مرة للغرب الشيوعي ومرات للغرب الرأسمالي ، وتم إلحاق أجزاء من الوطن الإسلامي بهذا الحليف أو ذاك المحور فيما أفضل أبناء الأمة يدفعون إلى السجون والمعتقلات أو يعلقون على أعواد المشانق.

القضية الفلسطينية أهم قضايا المسلمين اليوم ، كيف يمكنهم أن يتعاملوا معها وأن يطرحوا رؤيتهم لها؟ كيف يمكن أن يجعلوها هماً حقيقياً بالنسبة لهم؟ كيف يمكن أن يفهموها ويعوا أبعادها ويجيبوا على الأسئلة الساخنة فوق ساحتها؟ هل كان عبثا ـ على سبيل المثال ـ أن يقدم الغرب وعد بلفور في الوقت الذي كان فيه الغرب يدمر بنيان الدولة العثمانية ويجتاح المنطقة عسكرياُ إثر الحرب العالمية الأولى وبعد أكثر من قرن من التغريب المتواصل والنهب الاستعماري؟ هل كان عبثاً أن الذين طعنوا دولة الخلافة من الخلف وعملوا على إسقاطها خدمة لبريطانيا وفرنسا هم الذين استمروا يحكمون الوطن الإسلامي بمنطق التجزئة وداخل حدود سايكس بيكو .. وهم الذين قامت إسرائيل على أكتافهم وأمام أبصارهم ولم يفعلوا سوى الهرب أمام آلاف من اليهود عام 1948؟ هل كان عبثاً أن الأنظمة التقدمية الثورية والتي حاولت ما بين النكبتين (1948-1967) سحق عقيدة الأمة وفصم عرى انتمائها العقائدي والحضاري التاريخي هي التي أضاعت القدس وأوصلت إسرائيل إلى ضفة الأردن وشاطئ السويس، وليس بعيداً عن دمشق الشام؟ كما أنها هي نفس الأنظمة التي خرج منها زعيم أكبر العواصم العربية ليركع أمام إسرائيل متاجراً بالعقيدة والتاريخ والأرض. على مدى العقود الماضية كانت القضية الفلسطينية ميداناً للبحث والدراسة لكل الأيديولوجيات اللا إسلامية في المنطقة، فيما المحاولات الإسلامية لوعي القضية وإدراك أبعادها بقيت عاطفية بسيطة حركها ذلك الارتباط الرائع والمأساوي في وقت واحد بين فلسطين والمسجد الأقصى، دون إدراك للأبعاد الإلهية التي حملها ذلك الارتباط والتي أعطت لفلسطين خصوصية تميزت بها وتفردت. وقلما نجد ـ بل إننا على وجه التحديد لا نجد ـ في المكتبة الإسلامية دراسة تاريخية جادة وشاملة لفلسطين من منظور إسلامي، وكل ما بين أيدينا الآن لا يتعدى مجال الوعظ والخطب المنبرية حول حقنا بفلسطين (وقف المسلمين وأرضهم المغتصبة) وضرورة تحريرها. وما نلحظه من دراسات إسلامية بدأت تظهر أخيراً ورغم ما يبشر به من خير إلا أنها تبقى جزئية لا تفي بالغرض المطلوب الذي يجب أن تتوافر له الجهود والطاقات الإسلامية. وبداية الجهد وربما أهمه أن يتحول الموضوع الفلسطيني إلى هم داخلي للحركة الإسلامية تمارسه وتحياه وتعيشه معايشة يومية، فلا يقف فيه المسلمون موقف المتفرج فيما تدور الأرض والزمن والتاريخ.

إن تحويل الموضوع الفلسطيني إلى همّ إسلامي داخلي أمر في منتهى الأهمية والخطورة، سواء بالنسبة لمستقبل فلسطين أم مستقبل الحركة الإسلامية. وقناعتنا أن ذلك ـ على أهميته وخطورته ـ لا يحتاج إلا لقرار سياسي فقط!! يحول اهتمامات كوادر الحركة الإسلامية وقواعدها إلى ميدان المعركة الحقيقية بدلاً من ميادين وهمية تستنفد الجهد والطاقة، وقناعتنا أن الظروف الموضوعية ناضجة بما فيه الكفاية للتفاعل مع قرار كهذا وتحقيق قفزة واسعة نقلة بعيدة ومهمة في تاريخ الحركة الإسلامية. والدراسة التي بين أيدينا محاولة لوضع المأساة الفلسطينية في مكانها الطبيعي في مسيرة الحركة الإسلامية من خلال تحويلها إلى همّ حقيقي يحركه القرآن والتاريخ والواقع ، وهي مشاركة بسيطة لن تغني عن مزيد من الدراسة والتحليل.

مركزية القضية الفلسطينية

كانت جحافل الغرب الاستعماري تتقدم باتجاه الوطن الإسلامي، فثورة الغرب الصناعية تحقق نتائج علمية ومادية باهرة تصعد إلى أوجها، والحقد الصليبي القديم لم يبرح صدر الغرب ولم يغادر دمه ، وهكذا تقدم الغرب في ظل العنف المسلح الذي كان ضروريا وأساسياً لتحقيق أهدافه ، ولكنه لم يكن كل شيء في عملية اقتحام الغرب للبيت الإسلامي ، لم تكن السيطرة العسكرية والسياسية والاقتصادية بقادرة على حسم المعركة، فقد بقي للأبعاد الحضارية والثقافية الدور الحاسم والكلمة النهائية لأن خلاص هذه الأبعاد وتحررها من تأثير المستعمر يجعلنا قادرين على النهوض وإفشال كل أشكال السيطرة الأخرى، سواء العسكرية أم السياسية أم الاقتصادية. ولذلك عمد الغرب إلى (شن حربه الشاملة) ضد الوطن الإسلامي وتكريس (القابلية للاستعمار) في نفوسنا، وتدمير منابع القدرة الداخلية، وذلك بتحطيم المكونات العقيدية والفكرية والحضارية للمجتمع الإسلامي وتغيير أنماط المعيشة والإنتاج فيه بما يخدم مصالحه ويحقق التبعية له.

لقد كانت حرباً شاملة، معركة شرسة تقدمت فيها جيوشه على محورين:

المحور الأول: وتضمن ثلاث مراحل:

1- إسقاط النظام السياسي الإسلامي وإنهاء دولة الخلافة، فبعد أكثر من قرن من الوجود الاستعماري الغربي في المنطقة الذي شكلت الحملة الفرنسية طليعته ، نجحت الهجمة الغربية في إسقاط الدولة العثمانية ، آخر الدول الإسلامية ورمز الوحدة الإسلامية لقرون عديدة.

2- تدمير المؤسسات الإسلامية القائمة سواء كانت بقايا موروثة من أجهزة الدولة العثمانية أم جمعيات ومعاهد إسلامية.. تلك التي كانت من الممكن أن تشكل قوارب النجاة باتجاه التكتل من جديد لإعادة الخلافة ، ولم يكتف الغرب وتلامذته هجمته بذلك ، فقد عملوا على خلق مؤسسات موازية ومعادية، كانت محاكاة مشوهة وناقصة لمؤسسات الغرب.

3- محاولة تدمير العقل السليم وحشوه بمفاهيم الغرب ليقطع كل طريق على عملية التفكير في إعادة الخلافة، فمجرد تدمير المؤسسات الإسلامية وبقاء العقل الإسلامي في يقظة كفيل بمحاولة البدء من جديد وكفيل بنجاح المؤسسات الإسلامية والتنظيم الإسلامي من جديد.

المحور الثاني: ويتضمن ثلاث مراحل موازية للمراحل السابقة من جانب ومتممة لها في نفس الوقت من جانب آخر:

1- التجزئة: وتفتيت الوطن الإسلامي الواحد إلى عشرات الأقاليم والوطنيات حتى أصبحت حدود سايكس بيكو هي الحدود الشرعية التي يحافظ عليها كل إقليم وأعطت المبرر لعلم جديد ونشيد وطني جديد في كل قطر ، ورغم أحلام الوحدة التي انتشرت بعد ذلك إلا أن الانتقال إلى الصراعات القومية والإقليمية والحدودية المدمرة أصبح ظاهرة روتينية.. قبل أن يمضي على تأسيس وقيام باكستان (بعد انفصالها عن الهند) ربع قرن كانت تنشطر إلى قسمين مستقلين بعد حرب طاحنة ومدمرة ، والجزائر منذ استقلالها في صراع حدودي مع المغرب، وتشاد مع ليبيا ، وشمال السودان مع جنوبه ، وشمال اليمن مع جنوبه ، وفي عاصمة واحدة كبيروت صراع دموي بين شرقيها وغربيها وفي كل شطر صراعات وطوائف متحاربة.. إلخ.

2- التغريب: والذي بدأ منذ أول يوم للحملة الفرنسية وكان واضحاً في الرسالة الماكرة التي بعث بها نابليون بونابرت للمصريين،وكان كاسحاً في إرسال المثقفين والسياسيين الذين تمت سرقتهم لصالح الغرب وتمت تربيتهم في حضاناته ليتم في النهاية تكريس التبعية للغرب.

3- إقامة دولة إسرائيل: التي تعتبر أهم وأخطر وأعنف أشكال الحرب الشاملة، وبقيامها واستمرار وجودها في القلب من الوطن الإسلامي تكون الهجمة الغربية قد نفذت أهم وأخطر مهماتها.. فنحن هنا لا نواجه مجرد تحدّ عسكري أو مجرد تحد فكري ، وإنما تجمعاً استيطانياً عدوانياً في مكان مهم وحساس من الوطن الإسلامي يعطي للصراع كل أبعاده التاريخية والحضارية والعقدية والفكرية إضافة إلى الأبعاد العسكرية والسياسية والاقتصادية. وبقيام إسرائيل  لا تصبح ثقافة الأمة فقط هي المهددة بل وجودها برمته إن إقامة إسرائيل تعني أيضاً تأكيد تكريس كل المراحل السابقة: استمرار غياب النظام السياسي الإسلامي ، وتدمير المؤسسات الإسلامية ، واستمرار محاولة تدمير العقل المسلم، والتجزئة والتغريب.

وكل هذا جميعه يعطي للصراع مع إسرائيل تلك الخصوصية في فكرة الحركة الإسلامية المعاصرة وفي ممارستها أو ما نطلق عليه (مركزية القضية الفلسطينية بالنسبة للحركة الإسلامية المعاصرة). وهذا ليس شعاراً مجانياً التقط من بين خيارات متعددة وليس رفعاً لأهداف آنية أو مرحلية ولكنه الشعار الاستراتيجية التي فرضها التقاء تاريخنا الحديث والمعاصر بالمطلق القرآني (كما سنرى تفصيلا).

فإذا كانت مهمات الحركة الإسلامية المعاصرة قد حددتها تحولات تاريخنا نحو مواجهة نتائج التحدي الغربي الحديث في التغريب والتجزئة وإقامة الكيان الصهيوني ، وإذا كان الكيان الصهيوني واستمراره قد أصبح يمثل مركز التحدي ومركز الهجمة الغربية وضمانة لاستمرار هيمنتها على واقع التقسيم والتبعية والتخلف فإن على كل أجنحة الحركة الإسلامية وعلى ملايين جماهير الأمة في كل مكان أن تمد خطاً مستقيماً من قلب جبهتها المتقدمة في معركة النهضة وفي كل إقليم من أقاليم الوطن الإسلامي ، نحو المركز.. نحو القدس. إن جماهير الأمة تحمل في داخلها وجعاً خاصاً من أجل فلسطين ، وذلك لأن حسها التاريخي والعقائدي يخبرها بأن هناك .. على ذلك الشريط الصغير من شرق المتوسط ، تقع نقطة الصدام المركزية.. وهناك ستحسم معركة تاريخنا المعاصر. إن الوحدة على فلسطين  هي وحدة الوعي بأن بقاء الكيان الصهيوني يعني إفشال كل مشاريع النهضة ، ولهذا فإن الجدل حول من أولاً: مواجهة التبعية والتغريب والتجزئة أم مواجهة الكيان الصهيوني هو جدل نظري تحكمه حسابات الربح والخسارة الآنية أكثر من السعي الجاد لبناء استراتيجية متكاملة ومتماسكة لمشروع النهضة الإسلامية المعاصرة . إن الوحدة حول فلسطين هي وحدة التاريخ مع القرآن وهي إعادة الملايين المتقدمة نحو قدرها.. هي وحدة مشروع النهضة كله. وفي القدس ـ جوهر ومركز الصراع الكوني اليوم ـ تتحدد ملامح المعركة الفاصلة بين عباد الله حملة راية الوحي وقيم الوحدة من جهة، وحملة قيم فلسفة الصراع من الجهة الأخرى، بين المتطلعين إلى وجه الله الساعين إليه وبين المتمردين على الله الذين أقاموا في الأرض أبشع نموذج حضاري في تاريخ الإنسانية.

وإن استمر الجدل حول من أولا؟ فإننا نؤكد أن هذه الخصوصية وهذه المركزية للقضية الفلسطينية لن تعني بحال التقليل من أهمية أهداف ومهمات أخرى للحركة الإسلامية المعاصرة كقيام الدولة الإسلامية ووحدة الحركة الإسلامية وانتصار الثورة الإسلامية العالمية، على العكس تماماً (وكما سنرى من خلال هذه الدراسة) فالتعامل مع القضية من هذا المنظور هو الذي سيدفعنا باتجاه تحقيق هذه الأهداف، إن علاقة تبادلية (جدلية) واضحة وأكيدة هي التي تربط بين القضية الفلسطينية وتلك الأهداف والمهمات.

إن الحركة الإسلامية مطالبة اليوم بأن تعطي لفلسطين خصوصيتها (المنسية) وأن تؤكد على مركزيتها في النظرية والتطبيق (في فكرها وممارستها)، وهي في ذلك لا تنسى لحظة أنها إسلامية ربانية تجعل من مرضاة الله (عز وجل) غايتها القصوى وتجعل من (أحداث البعث الإسلامي في كل الأرض) غايتها الدنيا. كما تجعل هدفها البعيد تجاوز أزمة التحدي الغربي الحديث وحل المشكلات التي يواجهها المسلمون حلاً يتفق مع عقيدة الإسلام وشريعته. أما هدفها القريب فيبقى في إعادة النظام السياسي الإسلامي إلى الوجود بإقامة دولة الإسلام. والحركة الإسلامية في تأكيدها على هذه الخصوصية والمركزية ليست محكومة بمزاج إقليمي أو بمجرد مصلحة اجتماعية أو وطنية وإنما هي محكومة بأسباب (قرآنية وتاريخية وواقعية شاملة) أوسع وأبعد من أي حدود جغرافية .. أسباب تفرض على هذه الحركة أن تجعل من فلسطين محوراً لنشاطها السياسي اليومي باعتبارها ذروة التماس بين منهج الإسلام ومنهج الغرب ، وباتجاه تحقيق الغايات والأهداف السالفة.

البعد القرآني

في القرآن الكريم وفي الأثر النبوي الشريف، في التراث وفي التاريخ الإسلامي تمثل فلسطين وبيت المقدس مكاناً بارزاً وأهمية خاصة لا تخفي على أي قارئ لهذه المصادر، بل إنها تثير الاهتمام وربما الدهشة حين نلحظ الاهتمام القرآني بهذه الأرض المقدسة حتى قبل أن تطأها أقدام المجاهدين المسلمين بسنوات طويلة ، بل ومنذ السنوات الأولى للدعوة الإسلامية ـ سنوات الاستضعاف والاضطهاد ـ كان سيد البشرية وقائد الأمة محمد صلى الله عليه وسلم يقف متألماً كأشد ما يكون الألم الإنساني، معذباً وحيداً فيما غلمان الطائف يشجعون رأسه الطاهر ويدمون قدميه بحجارتهم فيرفع يديه إلى السماء وقد أنهكه التعب وأدمته الجراح  وأرهقته خيبة الأمل من أهل الطائف الذين أسمعوه ما غلظ وسمج من القول .. رفع يديه إلى السماء في صرخة مسكونة بحزن إنساني نادر ليدعو: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي وقلة حيلتي وهواني على الناس ، يا أرحم الراحمين ، أنت رب المستضعفين وأنت ربي.. إلى من تكلني ، إلى بعيد يتجه مني أم إلى عدو ملكته أمري، إن لم يكن بك علي غضب فلا أبالي ولكن عافيتك أوسع لي ، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة من أن تنزل بي غضبك أو يحل علي سخطك ، لك العتبى حتى ترضي ولا حول ولا قوة إلا بالله).

عندما وصل محمد صلى الله عليه وسلم إلى هذه اللحظة من الحزن والضعف البشري كان حقاً على الله أن يستضيفه ويكرمه مؤكداً له أنه سبحانه ما تخلى عنه وما غضب عليه ، فيحمله (عز وجل) إلى فلسطين في رحلة جليلة عظيمة ومعجزة تؤكد عالمية هذا الدين من خلال هذا الخروج الفذ والارتباط المعجز بين مكة والقدس، بين المسجد الحرام الذي لم يكن قد أصبح مسجداً بعد وبين المسجد الأقصى الذي لم يكن كذلك أيضاً. هذا الارتباط الذي سيتأكد عبر قرون تالية. كل هذا بعد رحلة المستضعف البشري لتجيء رحلة بيت المقدس مهيمنة ومسيطرة ولتعطي لمحمد صلى الله عليه وسلم من الشفافية والقوة والسمو ما لم يصله بشر ولا ملك ، كانت ليلة من عمر الزمان أعطت لاندفاعة المجاهدين المسلمين البواسل نحو القدس بعد ذلك بسنوات ـ وبعد ذلك بقرون وإلى الآن ـ شرعية لا تسمو فوقها شرعية وزخماً روحياً هائلاً لا ينضب، في تلك الليلة تأكدت عالمية هذا الدين الذي يحمله ذلك المستضعف الذي أدمى غلمان الطائف قدميه وشجوا رأسه.. في تلك الليلة تأكدت وحدة رسالات الحق ونبي الحق يصلي بالأنبياء.. في تلك الليلة القدسية كان فرض الصلاة عمود الدين ومظهر وحدة المسلمين الأهم ، وبعيداً عن تأثير أي عناصر محلية أو إقليمية كان الأمر الإلهي باستقبال بيت المقدس في الصلاة ، وهكذا لم ولن يكون عبثاً أن يعطي الإسلام لفلسطين وبيت المقدس هذه الخصوصية منذ سنوات دعوته الأولى بل وقبل قيام دولة الإسلام في المدينة.

ويتضح هذا أيضاً في آيات قرآنية متعددة خص فيها الله سبحانه وتعالى أرض فلسطين بالبركة:

"وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها" (الأعراف: 117).

"سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد  الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير" (الإسراء : 1).

"ونجيناه ولوطاً إلى الأرض التي باركنا فيها للعالمين" (الأنبياء : 71).

" ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلى الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين" (الأنبياء: 81).

" وجعلنا بينهم وبين القرى التي باركنا فيها قرى ظاهرة وقدرنا فيها السير ، سيروا فيها ليالي وأياماً آمنين" (سبأ: 18).

"يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين" (المائدة: 21).

وفي تفسير "والتين والزيتون وطور سنين" عن أبي هريرة، رضي الله عنه ، قال: أقسم ربنا عز وجل بأربعة أجبل فقال : والتين والزيتون وطور سنين وهذا البلد الأمين قال (ابو هريرة): التين طور زيتا . وفي رواية : والزيتون طور زيتا، وقال قتادة ، والزيتون جبل عليه بيت المقدس (انظر في ذلك فضائل بيت المقدس لابن الجوزي ، ص70 ، 71، وكذلك الإنس الجليل ، ج 1ص6).

وفي الأثر النبوي الشريف ما يؤكد على هذه البركة والخصوصية، عن عائشة، رضي الله عنها، عن النبي قال: إن مكة بلد عظيم ، عظّمه الله وعظم حرمته وحفها بالملائكة قبل أن يخلق شيئاً من الأرض يومئذ كلها بألف عام ووصلها بالمدينة ووصل المدينة ببيت المقدس ، ثم خلق الأرض بعد ألف عام خلقاً واحداً (فضائل القدس لابن الجوزي، ص72).

وعن مكحول بن ميمونة (مولاة الرسول)أنها سألت رسول الله عن بيت المقدس فقال: (نعم المسكن بيت المقدس ومن صلى فيه صلاة بألف صلاة فيما سواه)، وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل (جزء 6 ص:463) إن ميمونة قالت: يا نبي الله ، افتنا في بيت المقدس ، فقال : (أرض المحشر والمنشر صلوا فيه فإن صلاة فيه كألف صلاة فيما سواه)، وفي الحديث الشريف أيضاً: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى) (رواه البخاري ، جزء1 ص181، وأبن حنبل ، جزء 2 ص234).

وفي مسند الإمام أحمد بن حنبل 5/269 قال رسول الله: (لا تزال طائفة من أمتي على الدين ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم ولا ما أصابهم من البلاء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك، قالوا: يا رسول الله ، وأين هم؟ قال: في بيت المقدس وأكناف بيت المقدس).

وعن رب العزة أنه قال لبيت المقدس: أنت جنتي وقدسي وصفوتي من بلادي.. من سكنك فبرحمة مني ومن خرج منك فبسخط مني عليه) (فضائل القدس ، ابن الجوزي، ص95).

وروى المشرف بسنده عن عمران بن الحصين أنه قال: قلت يا رسول الله ، ما أحسن المدينة؟ قال: كيف لو رأيت بيت المقدس؟ قلت : وهل هي أحسن؟ قال: كيف لا وكل ما بها يُزار ولا يزور وتُهدى إليها الأرواح ولا تهدى روح بيت المقدس لغيرها (الإنس الجليل ، ج1 ص238).

وفي تراثنا الإسلامي ما لا يعد ولا يحصى في بيت المقدس من أقوال نذكر منها مقالة الإمام علي ، رضي الله عنه لصعصعة: (نعم المسكن بيت المقدس القائم في كالمجاهد في سبيل الله وليأتين على الناس زمن يقول أحدهم: ليتني تبنة في لبنة من لبنات بيت المقدس).

أما التاريخ الإسلامي فيبدو على مدى أربعة عشر قرناً (قبل أن تسلم القدس مفاتيحها من جديد لدورة حضارية إسلامية جديدة كما سلمت مفاتيحها من قبل لعمر بن الخطاب ، رضي الله عنه) أربعة عشر قرناً من سيادة الإسلام ضمن مراكز متناوبة ومتعاقبة من دمشق إلى بغداد إلى القاهرة إلى استانبول، قبل أن تغيب هذه الريادة وتذوي شمس الخلافة ويرد الله الكرة لبني إسرائيل على عبادة المسلمين بما اقترف هؤلاء من الإثم والمعصية والتخلي عن منهج الله وتحكيم البدائل الوضعية.

لقد بعثنا الله في قلب الجزيرة العربية لنواجه في بداية صعودنا إفساد وعلو بني إسرائيل في الجزيرة العربية فنجوس خلال ديارهم ونحقق انتصارنا ودولتنا وحضارتنا ونتسلم مفاتيح القدس وندخل المسجد أول مرة.. ولكن الله عز وجل يرد لهم الكرة علينا بعد أربعة عشر قرناً من الزمان انطلاقاً من القدس ليمنحهم إلى حين علواً وإفساداً إلى أن نصحو من غفوتنا ونعود إلى المنهج الذي يهدى للتي هي أقوم ويبشر المؤمنين ، بعد أن نسحق البدائل الضعيفة الوضعية ونتخلص منها إلى غير رجعة فينصرنا الله نصراً ومؤزراً يتحقق بهزيمتهم وإساءة وجوههم ودخولنا المسجد الأقصى كما دخلناه أول مرة ( وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين ولتعلن علواً كبيراً، فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار وكان وعداً مفعولاً، ثم رددنا لكم الكرة عليهم وأمددناكم بأموال وبنين وجعلناكم أكثر نفيراً، إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علوا تتبيراً) (الإسراء 3ـ7).

ولقد اختلف مفسرونا في تفسير الآيات اختلافاً كبيراً فمنهم من قال إن الله سلط على بني إسرائيل جالوت وجنوده ، ومنهم من قال: نبوخذ نصر أو العمالقة ، أو سنحاريب ، أو أهل فارس أو الروم، ومن قائل العرب، يقول ابن الجوزي  في فضائل القدس ، ص:105 (ثم كان آخر ذلك أن بعث الله محمداً فتركهم في عذاب الجزية). ويقول الطبري في تفسيره (15/135) (ثم كان ختام ذلك أن بعث الله عليهم هذا الحي من العرب ، فهم في عذاب منهم إلى يوم القيامة فهم يعطون الجزية عن يد وهم صاغرون).

كما رجح عند كثير من المفسرين أن اليهود أفسدوا أولاً بقتلهم أنبياءهم (أشياء) وأن نبوخذ نصر البابلي هو الذي قضي على علوهم وإفسادهم الأول هذا وأنهم أفسدوا على علوهم وإفسادهم الثاني، ونظرة فاحصة للآيات ولواقع تاريخ اليهود قبل الإسلام وبعده ولتاريخ الصراع بينهم وبين المسلمين يؤكد ضعف ما ذهبت إليه الروايات السابقة والتي لم ترفع أي منها إلى الرسول (صلى الله عليه وسلم). وقد نجد عذراً كبيراً لهؤلاء العلماء والمفسرين الكرام الذين عاشوا في ظل دولة إسلامية عظيمة لم يكن اليهود فيها أكثر من ذميين مشتتين وضعاف وما كان ليخطر على بالهم ـ المفسرين ـ أن يضعف سلطان الإسلام وتُمحى الخلافة من الأرض ويأتي زمن على بني إسرائيل (وهم القلة الذليلة) ليعلوا ويفسدوا ويتحكموا في رقاب المسلمين.. بل إننا نجد حكمة عظيمة لعدم إدراك المفسرين قديماً للمعنى والمغزى الدقيق من وراء الآيات لأن إدراك العلو والإفساد الثاني قبل وقوعه (فيما لو تنبه المفسرون الكرام لذلك) كان يعني أن يقف المسلمون أمام هجمة الغرب واليهود على فلسطين والوطن الإسلامي وكأنهم يقفون أمام قدر إلهي، لا حول ولا قوة لهم بمواجهته وليس أمامهم إلا الاستسلام والتسليم به حتى يتم وتنتهي دورته !! وكان هذا كفيلاً بالقضاء على روح الجهاد والمقاومة الإسلامية الضرورية لاستمرار الدفع والصراع بين المسلمين واليهود.. فحتى لو انتصر اليهود يبقى الدفع الإسلامي وتبقى روح المقاومة كما الجمر تحت الرماد حتى إذا أدركت وفهمت الأمة المعنى الحقيقي للآيات أعطاها هذا قوة جديدة وثقة عالية بربها ودينها ونفسها وتقدمت لتحقيق الوعد الإلهي المنشود.

يقول الشيخ سعيد حوى في كتابه جند الله ، ص 416: (يمكن أن نفهم الآن هذه الآيات فهماً آخر غير ما فهمه المفسرون قديماً، إن المفسرين لم يكونوا أمام واقعنا الحاضر من علو بني إسرائيل وفي الأرض وإفسادهم واستيلائهم على بيت المقدس ففسروا الآيات بأنها قد وقعت)، وقبل الحديث عما نستنتجه من طلع سورة الإسراء نشير إلى رأي لمجلة الأزهر، نقلاً عن كتاب الشيخ عبد الحميد كشك (نفحات من الدراسات الإسلامية): (الثابت أن الإسراء وقع لرسول الله وهو بمكة قبل الهجرة ، وسورة الإسراء نزلت في مكة كذلك فهي مكية الآيات.. وقد كان المسلمون يومئذ بمكة قلّة مستضعفين في الأرض يخافون أن يتخطفهم الناس ، فلم يكن لبني إسرائيل يومئذ شأن مع المسلمين ولم يكن لهم أثر بمكة ولا خطر يقتضي أن يتحدث الله عنهم في سورة مكية بمثل هذا التفصيل، فما السر أن يخبر الله عن إسرائه برسوله في آية واحدة ـ أول السورة ـ ثم ينقطع بعدها الحديث عن الإسراء جملة إلى آخرها، ويبدأ الحديث عن بني إسرائيل ، وما أنعم الله عليهم وعهد إليهم، وعن دور خطير يكون لهم؟؟ وما وجه المناسبة بين هذه الآيات والأحداث؟؟ السر في ذلك أن الله عز وجل يحدث عن الإسراء بقدر ما يبشر به نبيّه والمسلمين المضطهدين بمكة، المستضعفين في الأرض بأن أمرهم سيمتد ويعلو وشيكاً حتى تدين لهم عاصمة الشرك وعاصمة أهل الكتاب فهو سبحانه يقول: (سبحان الذي أسرى بعبده ليلاً من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى) ولم يقل من مكة إلى بيت المقدس كما هو الحال ، إذ الكعبة يومئذ لم تكن مسجداً وإنما كانت بيتاً تقوم حوله الأصنام ويطوف به العائدون والمشركون ولم يكن هيكل داوود وسليمان في دولة (يهودا أو إسرائيل) مسجداً، إنما كان بيتاً يأكل بنو إسرائيل من حوله السحت ويعيثون الفساد ولكن الله عز وجل حدث عن هذا الإسراء بأنه انتقال من مسجد إلى مسجد تبشيراً للمسلمين بأن أمرهم سيعلو بحيث يصبح البلد الذي استضعفوا فيه وهانوا، وحلت حرماتهم فيه ، مسجداً حراما ودار أمن وسلام)، ثم يستمر الرأي المنشور في مجلة الأزهر ويورده الشيخ كشك في كتابه على التأكيد في تفسير آية: (فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا عليكم عباداً لنا) قائلا : (لا تنطبق هذه المرة تمام الانطباق إلا على الدور الذي قاموا به على عهد النبي وأصحابه وما عاقبهم الله وسلط عليهم فيه) ص104، ثم يقول ص105، 106: (هذه هي المرة الأولى لا تنطبق أوصافهم إلا على أصحاب رسول الله).

(أ) فهم يستحقون شرف هذه النسبة (عباداً لنا) لأنهم الموحدون أتباع (عبده) الذي أسرى به ، أما أتباع (بختنصر) أو (سابور) أو (سنحاريب).. إلخ، فاضطربت فيهم أقوال المفسرين فقد كانوا عباد وثن لا يستحقون شرف الاختصاص بالله في قوله (لنا).

(ب) وهم الذين وصفهم الله في كتابه بأنهم (أشداء على الكفار رحماء بينهم).

(ج) وهم الذين لم يكلفهم تأديب اليهود إلا أن (جاسوا خلال الديار)، أما أتباع (بختنصر) فقد ذكروا أنه قتل على دم زكريا وحده سبعين ألفاً ، وأنه دخل بيت المقدس في أهله وسلب حليه. فهو (اجتياح) وليس (جوساً). ويستمر رأي (الأزهر) على نفس المنوال ليؤكد عنوان المقال (سورة الإسراء تقضي نهاية إسرائيل).

والآن ، وبنظرة متأنية نجد الآيات تشير إلى:

(1)يعلو بنو إسرائيل في الأرض مرتين مصحوبتين بإفساد ومن المؤكد أن العلو الذي عاشوه في ظل بعض رسلهم لم يصحبه إفساد.

(2)ينتج عن هذا العلو والإفساد صراع ودمار وخراب . وفي الوقت الذي يضع فيه القرآن بني إسرائيل طرفاً واضحاً وأكيداً في المرتين، فإنه يؤكد أيضاً على وجود طرف آخر يتكرر نفسه في المرتين تماماً كما يتكرر بنو إسرائيل كطرف. وقد ذكر القرآن الكريم هذا الطرف باسمه مرة واحدة في أول الآيات (عباداً لنا)، ثم استمرت الإشارة إليه بضمير الغائب إلى آخر السياق تأكيداً على أنه نفس الطرف الذي واجه بني إسرائيل في المرة الأولى، فبعد (بعثنا عليكم عباداً لنا) تأتي الأفعال (فجاسو)، (رددنا لكم الكرة عليهم)، (جعلناكم أكثر نفيراً)، أي أكثر منه، (ليسؤوا…)، (وليدخلوا…)، (وليتبروا …) فالضمير (محل فاعل أو مفعول) يعود في جميع الأفعال إلى كلمة (عباداً لنا) التي بدأ بها في الحالين معركة بين طرفين فقط.. نفس الطرفين ، بين المسلمين واليهود.

(3)من الواضح أن التفسيرات الأخرى تشير إلى مواجهة بني إسرائيل لأكثر من قوم ، فمرة نبوخذ نصر ومرة سنحاريب ومرة الروم ومرة الفرس  وحتى العرب ، وهذا يغاير ما اقتضته الآيات من أن المواجهة بين طرفين يتكرران في المرتين بمعنى إذا كان صراع المرة الأولى مع الفرس فصراع المرة الثانية (الأخير) أيضاً معهم.

(4)لم يعُد الله سبحانه لليهود الكرة لا على نبوخذ نصر ولا على سنحاريب ولا على الفرس ولا على الروم ولم يجعلهم الله أكثر نفيراً من هؤلاء. يقول الشيخ سعيد حوى: (الآيات إشارة إلى أن اليهود يصبحون أكثر نفيراً وما كان اليهود أكثر نفيراً من الفرس ، أما الآن فقد استطاعوا أن يستنفروا كل أمم الأرض) (جند الله ، ص 417). وفي رأي مجلة (الأزهر) (ولم يكن اليهود في يوم ما أكثر نفيراً وناصراً منهم اليوم، ولم يتمتع اليهود في تاريخهم ولا أنه في الأرض غيرهم بمثل ما يتمتعون به من كثرة الناصر لهم والنافر لجندهم…) (نفحات من الدراسات الإسلامية الشيخ كشك ، ص 106).

(5) لقد رد الله الكرة لبني إسرائيل على المسلمين (العرب) كما هو واضح منذ سقوط القدس وقيام دولتهم واستمرار علوهم وإفسادهم.

(6) إن ردة الكرة رغم أنها تجئ بعد زمن من القضاء على الإفساد الأول كما في (ثم) التي تفيد العطف مع التراخي الزمني، فإن ردة الكرة لن تستمر طويلاً كما تفيد (الفاء) في (فإذا جاء وعد الآخرة) والتي تفيد (الترتيب والتعقيب) أو عندما يصلون بعد ردة الكرة إلى ذروة علوهم وإفسادهم يكون هذا نفسه إيذاناً بالقضاء على هذا العلو والإفساد ومن قبل نفس العباد (عباداً لنا) وبالطريقة التي حددها القرآن ، اذلالهم ودخول المسجد الذي دخله هؤلاء العباد قبل ذلك في المرة الأولى وهذا ما حدث في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه، وهذه الطريقة في الانتصار كما حددها القرآن تختلف عن الطريقة التي تم بها الانتصار أولاً وهي أن يجوس العباد ذوو البأس الشديد خلال الديار.

وهكذا ، فإن (ثم) التي سبقت رددنا و(الفاء) التي سبقت (إذا جاء وعد الآخرة) تشيران الواقع الملموس ، أي المسافة الزمنية الواسعة بين القضاء على علوهم وإفسادهم الأول في الجزيرة العربية وبين ظهورهم وهيمنتهم، أي علوهم وإفسادهم الثاني وكذلك إلى المسافة الزمنية القصيرة التي يستمرها علوهم وإفسادهم الثاني حتى يحين وعد الآخرة بالقضاء عليهم.

(7) إن فعل الانبعاث الوارد في مطلع الآيات يحمل من المعاني والإيحاءات والدلالات ما ينبغي الوقوف عنده ، فالفعل هنا يحمل إيحاءات الرضا ، والرضا لا يكون من الله على الوثنيين والمشركين وإنما يكون عن المؤمنين. وقد جاءت كلمة (بعثنا) في القرآن الكريم سبع مرات كان الفاعل فيها جميعاً هو الله وكان المفعول به (أي المبعوثين) هم الأنبياء والمؤمنون الصالحون.

(وبعثنا منهم اثني عشر نقيباً…) (المائدة :12)

(ثم بعثنا من بعدهم موسى بآياتنا إلى فرعون وملئه) (الأعراف : 103).

(ثم بعثنا من بعده رسلاً إلى قومهم فجاءوهم بالبينات…) (يونس :74).

(ثم بعثنا من بعدهم موسى وهارون إلى فرعون وملئه بآياتنا…) (يونس:75).

 (فإذا جاء وعد أولاهما بعثنا  عليكم عباداً لنا…) (الإسراء:5).

(ولو شئنا لبعثنا في كل قرية نذيراً …) (الفرقان :51).

وأوضح في جميع الآيات السابقة كيف أن كلمة (بعثنا) جاءت ي سياق الرضا والمديح والثناء الذي لايكون لنبوخذ نصر ولا للروم أو غيرهم من غير المؤمنين. كذلك استخدم فعل (بعث) في القرآن سبع مرات بنفس المعنى ـ الرضا والمديح): (كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين..) (البقرة :213)، (وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً…) (البقرة 247)، (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم…) (آل عمران : 164) ، (فبعث الله غراباً يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوءة أخيه) (المائدة :31)، (أبعث الله بشراً رسولاً…) (الإسراء: 94)، (أهذا الذي بعث الله رسولاً…) (الفرقان :41)، (هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم يتلو عليهم آياته…) (الجمعة:2).

(8) إن الطريقة التي تعامل بها الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام مع بني إسرائيل في المدينة وفي الجزيرة العربية تنطبق تمام الانطباق على ألفاظ: (بعثنا عليكم عباداً لنا أولى بأس شديد فجاسوا خلال الديار).. إنها نفس صفات الصحابة، رضوان الله عليهم ذوي البأس الشديد ونفس أسلوب القتال في داخل ديار اليهود وكان أول صدام مع (بني قينقاع) الذين قالوا له ساخرين عندما دعاهم رسول الله للإسلام.

(يا محمد، إنك ترى أننا كقومك ، لا يغرنك أنك لقيت قوماً لا علم لهم بالحرب فأصبت فرصة وإنا والله لئن حاربتنا لتعلمن أننا نحن الناس).. وهؤلاء هم الذين حاولوا مفسدين إجهار سوءة المرأة المسلمة والإساءة إليها وقتلوا المسلم الذي هب لنجدتهم فحاصرهم رسول الله زمناً وكان يريد قتلهم أربعمائة حاسر وثلاثمائة دارع لو لا تدخل عبد الله بن  أبي سلول الذي حاول جاهداً أن يمنع عنهم هذا المصير حتى غضب الرسول أشد الغضب، ثم أمر بأن يخرجوا من المدينة ولا يجاوروه أبداً فخرجوا إلى (أذرعات) بالشام وهلك أكثرهم بها وكان هذا في السنة الثانية للهجرة. وفي السنة الرابعة للهجرة همّ بنو النضير أن يغدروا برسول الله ويطرحوا عليه صخرة ليقتلوه فخرج إليهم وقد تحصنوا بحصونهم معهم النبل والحجارة حتى ظن المسلمون أنهم غير قادرين على إخراجهم، ولكن الله قذف في قلوبهم الرعب فأخرجهم المسلمون من ديارهم وجاسوا خلالها فقطعوا نخيلهم ودمروا حصونهم: (ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله وليخزي الفاسقين) (الحشر:5).

واليهود هم الذين استنفروا الأحزاب وكانوا يومها يعدون ثلاثة آلاف ولكن الله رد الأحزاب على أعقابهم خاسرين وعاد رسول الله إلى المدينة فأتاه جبريل فأمره بالرجوع إلى (بني قريظة) الذين خانوا العهد وألبوا الأحزاب، فسار إليهم وهم متحصنون في حصونهم وحاصرهم خمسة وعشرين يوماً حتى جهدهم الحصار ونزلوا على حكم رسول الله الذي ساقهم إلى خنادق المدينة فقتل كل مقاتليهم وسلب ذراريهم. وفي السنة السابعة للهجرة توجه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خيبر وكانت مدينة كبيرة تقع على بعد مائة ميل شمال المدينة جهة الشام، فجاس خلال ديارهم وفتح حصونهم المنيعة واحداً تلو الآخر إلا حصنين حاصرهما بضع عشرة ليلة حتى أيقن من فيهما باهلاك، فنزلوا على حكمه بالخروج والإجلاء ولكنهم بعد ذلك سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبقوا في خيبر ويزرعوها ولهم شطر مما يخرج منها فوافق قائلا: (على أنا إن شئنا أن نخرجكم أخرجناكم) وظلوا كذلك فقتلوا أحد الأنصار واعتدوا على عبد الله بن عمر في عهد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فأخرجهم من الجزيرة العربية كلها.

(9) تشير الآيات منذ البداية إلى أن الطرف المواجه لبني إسرائيل (عباداً لنا).. وعباداً لنا لا تشير إلى جيوش الوثنيين من فرس وغيرهم وإنما جيوش الإيمان فيستبعد أن ينسب الله إلى نفسه الوثني الأشوري ،وفي  مطلع سورة الإسراء أراد ان يكرم محمداً (صلى الله عليه وسلم) فنسبه إلى نفسه: (سبحان الذي أسرى بعبده)، يقول الشيخ سعيد حوى: (والآيات أشارت إلى عباد الله ومسجد فالأولى أن نفهم ذلك بالعبودية الخاصة المرتبطة بالمسجد وهذه لم تكن للفرس الوثنيين الذين سلطوا على اليهود أكثر من مرة) (جند الله ، ص 417).

وكلمة (عباد)  الواردة في القرآن كانت تعني المؤمنين أو عموم الناس.. أما في حالة إضافتها إلى الله فقد كانت تعني في الغالب المؤمنين فإذا جاءت الإضافة في سياق خطاب الله عز وجل عن نفسه (عبادنا.. عبادي) فقد كانت تعني المؤمنين،وقد جاءت كلمة عباد في صدر سورة الإسراء مضافة إلى الله بلام الاختصاص (عباداً لنا) بما يوحي بقوة هذا الارتباط وخصوصيته وفي هذا إشارة واضحة إلى إيمان وصلاح هؤلاء العباد.

(10) عندما يعيد الله لبني إسرائيل الكرة على عباده يمدهم بأموال وبنين، وكل مراقب يرى أنه بدون هذا الإمداد في الأموال علينا (كَرّة).. فالكيان الصهيوني لا يعتمد اقتصادياً على ذاته رغم تقدمه العلمي والتكنولوجي النسبي وأنه بدون إمداده بمليارات الدولارات كل عام لا يستطيع الصمود والوقوف على رجليه وإن كان المال الخارجي ـ الإمداد ـ ضروريا لاستمرار وبقاء الدولة العبرية فإن الإمداد بالبنين أمر في غاية الأهمية أيضاً وقد كان أسس المشروع الصهيوني منذ نهايات القرن التاسع عشر وحتى قيام دولتهم وإلى الآن هو استجلاب المهاجرين اليهود (البنين) إلى فلسطين .. وقد أعدوا لذلك المؤسسات والأموال ودعم الحكومات القوية كما خاضوا الصراعات لتأمين هذا الإمداد الذي يأتيهم من كل مكان، وإن كان للعرب والمسلمين أموالهم وبنوهم أيضاً كما لليهود فإن الله ميز اليهود ـ في هذه الكرة ـ عن المسلمين بأنهم أكثر نفيراً والجميع يرى ويعلم كم هم أكثر نفيراً.. فهم أكثر قدرة على حشد السلاح وتوظيف الإمكانات واستدعاء عالم الأقوياء ليقف بجانبهم وينفر معهم ضد المسلمين.. صوتهم أعلى من صوت المسلمين ودعايتهم أكثر فعالية والصحافة والإعلام العالمي بأيديهم… وعندما يطلبون السلاح يجدونه من كل نوع وبكل كم.

(11) إن سورة الإسراء لها اسم آخر هو (بني إسرائيل) فهي لم تتكلم عن الإسراء إلا في آية واحدة واستمرت تفصيلاً بعد ذلك في الحديث عن بني إسرائيل فهي في مطلعها (الآيات من 3 ـ 7) تتكلم عن علوهم وإفسادهم وقبل نهايتها (الآية :104) يخاطب الله بني إسرائيل (فإذا جاء وعد الآخر جئنا بكم لفيفاً)، وهذه حقيقة جديرة بالتأمل فاليهود الذين استمروا بعيداً عن فلسطين لآلاف الأعوام هم اليوم يعود بهم بعد هذه القرون الطويلة ويعيدهم إلى فلسطين لفيفاً ـ أي جماعات ـ ومن كل أقطار الأرض إلى القبر الكبير ليتحقق الوعد المقضي وليتم المقدور.

(12) إن المتأمل لصيغة الأفعال الواردة في الآيات التي تتحدث عن الصراع بين المسلمين وبني إسرائيل يلاحظ التعبير عن تحقيق الوعد الأول بصيغة الفعل الماضي (بعثنا عليكم عباداً لنا أولى بأس شديد فجاسوا…) بينما يتكلم القرآن عن تحقيق انتصار المسلمين في المرة الثانية بصيغة الفعل المضارع (فإذا جاء وعد الآخرة ليسؤوا وجوهكم وليدخلوا المسجد كما دخلوه أول مرة وليتبروا ما علو تتبيراً) وهذا إيحاء قرآني لطيف يمكن إضافته إلى بقية الشواهد ليشير إلى تحقيق انتصار عباد الله على بني إسرائيل ـ مرة ثانية ـ في المستقبل القريب الذي هو امتداد مباشر للحاضر.

(13) والذين يظنون أن اليهود في الجزيرة العربية لم يصلوا في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم إلى درجة من القوة تقودهم إلى العلو والإفساد نذكرهم فقط بمطلع سورة الحشر (سبح لله ما في السموات وما في الأرض وهو العزيز الحكيم، هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب  من ديارهم لأول الحشر ما ظننتم أن يخرجوا وظنوا أنهم ما نعتهم حصونهم من الله فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب يخربون بيوتهم بأيديهم وأيدي المؤمنين فاعتبروا يا أولى الأبصار) (سورة الحشر 1ـ2).

وهكذا فقد ظن المسلمون وبينهم رسول الله أن يهود بني النضير على درجة من القوة ولن يستطيعوا إخراجهم.. كما ظن اليهود أنفسهم بسبب مناعة حصونهم وثقتهم وغرورهم أن لن يقدر أحد على إخراجهم.. وأخيراً كانت إرادة الله بأن قذف في قلوبهم الخوف تمهيداً لضربهم وهزيمتهم.

كذلك يؤكد تاريخ اليهود في الجزيرة العربية أنهم أقاموا في يثرب (المدينة) وما حولها قوة اقتصادية وسياسية وثقافية ودينية وعسكرية كبيرة كانت من الأهم في جزيرة العرب ، وأنهم كانوا ينمون على حساب العرب ويغذون صراع الأوس والخزرج، كما تحكموا في أسواق المنطقة في حين بقي العرب مستهلكين وأجراء عندهم، بيدهم الذهب والفضة والكروم والبساتين والمزارع، كما كانوا يتعالون على العرب بأنهم أهل كتاب وأهل علم وثقافة ، كل هذا حولهم إلى أداة متعالية مفسدة فقد أنكروا رسالة محمد صلى الله عليه وسلم رغم تيقنهم منها وحاولوا اغتياله بعد مولده وكانوا مصدر دعم ومساندة لمشركي قريش في حربهم ضد الإسلام، كما حاول بنو النضير قتله وتكررت المحاولة يوم خيبر في حين نقضت بنو قريظة عهدها معه.

(14) إذا كان القرآن الكريم يشير بهذا الشكل الواضح إلى ملحمة عظيمة في بيت المقدس  تسفر عن انتصار عباد الله المسلمين وانحسار الشرك وذهاب علو بني إسرائيل وإفسادهم فإن السنة النبوية التي جاءت متممة ومفسرة تؤكد هذا المعنى أيضاً.. فهي تتحدث عن استمرار الصراع ووجود طائفة من المجاهدين أهل الحق في فلسطين ومن حول فلسطين ، فيروي البخاري ومسلم وغيرهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم  قال : (لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين ولعدوهم قاهرين لا يضرهم من جابههم ولا ما أصابهم من البلاء حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ، قالوا يا رسول الله ، وأين هم ؟ قال : في بيت المقدس وفي أكناف بيت المقدس) ، ثم يتحدث عن مواجهة المسلمين لليهود فيقول: (لا تقوم الساعة  حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون حتى يختبئ اليهودي وراء الحجر والشجر فيقول الشجر والحجر يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي تعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود). وفي رواية أخرى: (ستقاتلون اليهود أنتم شرقي النهر وهم غربية) وقيل أي نهر الأردن وفي روايات أخرى يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رايات سود تخرج من خراسان لا يمنعها مانع حتى تنصب في إيليا).. أي بيت المقدس . وأخرج الدارمي في سننه وأحمد بن حنبل في مسنده وابن أبي شيبة عن أبي قبيل قال: كنا عند عبد الله بن عمر بن الخطاب وسأل أي المدينتين تفتح أولاً القسطنطينية أم رومية؟ فدعى عبد الله بصندوق له حلق قال فأخرج كتاباً فقال عبد الله فيما نحن حول رسول الله صلى الله عليه وسلم نكتب إذ سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي المدينتين تفتح أولاً فقال مدينة هرقل أي القسطنطينية) وجميعنا يعرف أن محمداً الفاتح فتح القسطنطينية  بعد ذلك بأكثر من ثمانية قرون (1453م) تأكيداً لنبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم وأن رومية (روما) لم تفتح بعد وأن ذلك سيتحقق إن شاء الله.

وما من شك في أن تحرير القدس هو البداية وإلى أن يظهر الإسلام على الدين كله ويعم الأرض (ليظهره على الدين كله) (آية 9 ـ سورة الصف) وتأكيداً لنبوءة الرسول صلى الله عليه وسلم إذ روى عنه في صحيح مسلم ومسند أحمد بن حنبل وسنن أبي داوود (9) وابن ماجه أنه قال: (إن الله زوي لي الأرض ـ أي ضمنها وجمعها ـ فرأيت مشارق الأرض ومغاربها وأن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها).

وهكذا يؤكد لنا البعد القرآني للقضية الفلسطينية بما لا يقبل الشك خصوصية هذه الأرض ـ فلسطين ـ وخصوصية هذه القضية وبالتالي مركزيتها في فكر وممارسة الحركة الإسلامية.

من قلب الجزيرة العربية انطلق المسلمون باتجاه حوض الحضارات واستطاعوا في زمن قياسي أن يقيموا دولة عظيمة ومترامية الأطراف وحضارة هي أعظم الحضارات وأكثرها تأثيراً في تاريخ البشرية.. ولقد استمرت هذه الحضارة لأكثر من ثلاثة عشر قرناً من الزمان ضمن مراكز حضارية متناوبة ومتعاقبة من المدينة إلى دمشق إلى بغداد إلى القاهرة إلى استانبول، ولقد مثلت الروح القرآنية المنبثقة عن لقاء السماوات بالأرض انطلاقاً من حراء والمنبثقة عن المنهج التوحيدي، مثلت القوة الدافعة لحركة المسلمين وانتصاراتهم وإبداعهم المتنوع على مدى قرون عديدة، ولقد تعرض الإسلام ومنذ سنوات مبكرة بعد ظهوره إلى فتن عظيمة كانت كافية لتحطيم أقوى الدول.. ولكن الطاقة الهائلة الكامنة في منهج الإسلام التوحيدي أعطت للحضارة الإسلامية فوق العمر المديد قوة وسمواً فتجاوزت من الفتن ما تنوء تحته أعظم الجبال وأعظم الدول وأعظم الحضارات.

لقد استمر للروح القرآنية وللدفعة القرآنية تأثيرها الفذ ولقرون عديدة رغم التأثير السلبي لمسلسل الفتن والصراعات على تلك الروح وتلك الدفعة والذي كان لا بد مع الزمن أن يترك أثراً سلبياً على مسيرة المسلمين فيتركهم أحياناً فريسة للأخطار الخارجية ، لكن إلى حين. ولقد كانت الحملات الصليبية التي تعرض لها الوطن الإسلامي قبل حوالي ثمانية قرون من أهم الأخطار التي تعرض لها المسلمون ، لكن الدفعة القرآنية كانت لا تزال قادرة على التفاعل في الجسد الإسلامي إلى درجة تجعله قادراً في النهاية على رد الهجمات وامتصاصها.. ولكن ذلك لم يستمر طويلا إذ تواصلت عملية الانحدار داخل بنيان الوطن الإسلامي فما أن جاءت نهاية القرن الثامن عشر ومعها جيوش الغرب حتى كانت المقابلة أشد صعوبة وأكثر مأساوية.. فالغرب كان قد حقق إنجازات مهمة بعد ثورته الصناعية وبناء نهضته الحضارية المادية فأصبح قوياً وفتياً بما فيه الكفاية، فيما الدفعة القرآنية تضمحل داخل الجسد الإسلامي وتتركه ضعيفاً قابلاً للجرح، وهكذا جاءت الحملة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر والتي كانت أقل حجما بما لا يقاس من تلك الحروب الصليبية..ولكنها تركت من الآثار الهائلة على الجسد المنهك مازلنا نعيش آثاره حتى الآن ، ورغم أنها رحلت بعد سنوات قليلة إلا أن بنيان الأمة الضعيف كان قد تم اختراقه بالتغريب الذي بدا بسيطاً غير واضح في البداية كما هو عند رفاعة الطهطاوي.. الشيخ المعمم الذي سافر مع البعثة التعليمية التي أرسلها محمد علي إلى باريس ليؤمهم في الصلاة ويقوم بدور الإرشاد فعاد الشيخ مبهوراً أمام تقدم فرنسا وتطور قوانينها ودستورها.. مبهوراً أمام العلاقات الاجتماعية، أمام نظافة الشوارع، وعربة الرش التي تجوب الشوارع، ولكن مع الزمن بدأ تيار التغريب أكثر وضوحاً كما لدى المثقفين الأتراك في (تركيا الفتاة) ثم (الاتحاد والترقي) ولدى المثقفين العرب في الجمعيات العربية السرية داخل حدود الدولة العثمانية مثل (جمعية بيروت الإصلاحية) ، (الجمعية القحطانية) ،(العربية الفتاة) ، (جمعية العهد) وأيضا بين طبقة موظفي ناصر الدين شاه في إيران وبقية فترة الأسرة القاجارية . لقد كانت الغرب في القرن التاسع عشر (التحدي الغربي الحديث) يتحرك باتجاه الوطن الإسلامي بكل ثقل حقده الصليبي القديم بالإضافة إلى ثقل العوامل الاقتصادية والسياسي.. فهو أيضا يبحث عن المواد الخام ويريد تصريف منتجاته وبضائعه ويريد دائماً مناطق نفوذ ولكنه يصطدم بالجدار الإسلامي فيدفعه ذلك لمحاولة تدميره مبتدئاً بتوسيع قاعدة تيار التغريب بين أبناء أمتنا ومثقفيها وبالمدارس التبشيرية عن طريق السفارات والقنصليات وبحركة ترجمة لآداب الغرب وفلسفاته وفنونه (بدلاً من العلوم التطبيقية والبعثات الدراسية).. ولكن هذا المشروع الاستعماري لم يكن أمامه في النهاية إلا استخدام العنف لإسقاط الجدار الإسلامي العظيم، والعنف كان سمة الغرب الأساسية وفي كل مراحل صراعه مع الإسلام، المهم أن الغرب هذه المرة لم يكن وحده فقد عقد تحالفاً كاملاً مع الحكومة الصهيونية التي مثلت في نهاية القرن التاسع عشر الإطار السياسي للأطروحة اليهودية الدينية الزائفة في وطن لشعب الله المختار: اليهود على أرض الله المقدسة (فلسطين). وتحالف الجميع ، الغرب واليهود من جانب ، وتيار التغريب من جانب ليسقطوا الدولة العثمانية فيقلبوا بذلك موازين القوى ويغيروا خريطة المنطقة السياسية والفكرية. وينكشف مسرح المنطقة عن مصطفى كمال أتاتورك في تركيا ورضا خان في إيران وأبناء الشريف حسين في المشرق العربي ومدرسة (حزب الوفد) في مصر ، كانت سنوات صعبة تلك التي غطت الربع الأول من القرن الميلادي العشرين فقد كان المشروع الاستعماري يتشكل أكثر وضوحاً، وكان المشروع  اليهودي هو الجزء المركزي لهذا المشروع ولكل الهجمة الغربية ، فالذين أسقطوا بأيديهم دولة الخلافة خدمة للغرب هم الذين حكموا المنطقة على قواعد سايكس بيكو ، وهم أنفسهم الذين قامت على أكتافهم وأمام أبصارهم الدولة العبرية ، وكانوا طيلة الوقت يحاولون تدمير إسلام الأمة النقيض الكامل والحقيقي للهجمة الغربية ، وهكذا تم تنفيذ مشروع إقامة إسرائيل كأهم هدف للهجمة الغربية بل كتجسيد شامل لطغيان الغرب واستمرار وجوده في المنطقة.

وهكذا كانت إسرائيل لأن أصحاب القرار في المشروع الاستعماري أدركوا أن النخب المتغربة أضعف من أن تضمن مصالحهم وأضعف من أن تستطيع الاستمرار في المعركة ضد ضمير الأمة الإسلامي وضد عقيدة الأمة الإسلامية وضد امتداد القرون الأربعة عشر من التاريخ الإسلامي المجيد ، لقد غرسوا في قلب الوطن الإسلامي هذا الكيان الغريب لضمان حالة الهيمنة الغربية وتكريس التبعية والإلحاق ، وعندما فوجئت الجماهير المسلمة بالشرك الذي نصب لها في فلسطين تنبهت للمؤامرة وكشفت أبعاد النكبة ولكن الاستعمار كان أسرع إدراكاً للإشكالية الجديدة لدى الجماهير فسارع إلى تغيير الأنظمة وسرقة شعارات الأمة وأحلامها في التغيير والنهضة ، فظهر إلى المسرح نمط جديد من عسكر الانقلابات السورية والعراقية جمال جورسيل (تركيا) وأحمد سوكارنو (اندونيسيا) وأيوب خان (باكستان) وكانوا جميعاً حلقات لمنهج واحد ، واصبح الهدف تصفية الإسلام نهائياً لتنفيذ أهداف الغرب ومهماته بأيدي أبناء الوطن الإسلامي أنفسهم فكانت النكبة عام 1967 وفيها سقطت القدس مع مزيد من الجغرافيا والتاريخ فيما مزيد من مساحة العقيدة تتعرض للخطر بسبب الخلل الذي أحدثته الأفكار الغربية الوافدة داخل الإنسان العربي والتي وضعت الانتماء التاريخي الإسلامي والوعي العقائدي الإسلامي في محل جدل لا ينتهي ولا يثمر إلا العقم ،وباختصار فإن المشروع الاستعماري الذي امتد لقرنين من الزمان وحاول جاهداً قطع التواصل الحضاري والتاريخي للأمة الإسلامية ، استطاع بعد قرن ونصف من وجوده في المنطقة أن ينجح في إقامة إسرائيل : أهم الأدوات وأخطرها وأكثرها فعالية في عملية قطع هذا التواصل الحضاري والتاريخي للأمة.. وهكذا يؤكد التحليل التاريخي ما سبق أن أكده التحليل القرآني من خطورة المشروع اليهودي في فلسطين.

إن التحليل التاريخي يرى في المشروع اليهودي الجزء المركزي في الهجمة الغربية والتحدي الغربي الحديث أهم مشكلات الوطن الإسلامي، وهذا تأكيد جديد على تميز وخصوصية ومركزية القضية الفلسطينية.. تأكيد يجعل من الصعب على الحركة الإسلامية المعاصرة أن تحقق أهدافها في مواجهة آثار ونتائج الهجمة الغربية في بلادنا من تجزئة وتغريب وتبعية وإلحاق، بدون مواجهة قلب هذه الهجمة وضمانة استمرار هيمنتها في فلسطين ، ولكن قبل الانتقال إلى البعد الواقعي لا بد أن نشير إلى أننا ونحن نتكلم عن إسرائيل كجزء من المشروع الاستعماري لا ينتابنا الوهم القائل : (إن إسرائيل ليست أكثر من أداة سياسية في يد الغرب).. فالحركة الصهيونية ليست أداة بالمعنى الضيق ولكنها أيضاً حليف حقيقي ، وبين الطرفين (الصهيوني والغرب ) أهداف مشتركة متعددة تجعل إسرائيل تبدو وكأنها مجرد أداة للغرب ، إنها الأداة المتقدمة للتحالف بين الغرب والحركة الصهيونية وتبقى إسرائيل الجزء المهم الأكثر وضوحاً وظهوراً من جسد الحركة الصهيونية واليهودية الممتدة في العالم  والعالم الغربي بالذات ، إسرائيل هذه شريك حقيقي مهما بدت كشريك صغير.

إن كون إسرائيل الجزء المركزي في الهجمة الغربية المتواصلة ضد الوطن الإسلامي يعني أنها لا بد أن تؤدي دوراً مركزيا في العمل لتحقيق أهداف هذه الهجمة ، كعزل الإسلام بعيداً عن الحياة والحكم ومواصلة العمل لتدميره على كل المستويات والتحرك الدائم باتجاه المحافظة على الرموز والمتغربة النافذة والمسيطرة داخل الوطن الإسلامي ضمن عملية المحافظة الشاملة على كل مصالح الغرب في المنطقة من هذا المنظور يجب أن نفهم الدور فوق العادي لإسرائيل والأبعاد الشاملة للخطر الإسرائيلي، ومن أبرز مظاهر هذا الخطر:

1- تجسد إسرائيل وبشكل واقعي ذروة المنهج الوضعي الصراعي المضاد للإسلام.. دين السلام والحق والكرامة الذي يحترم الإنسان ويعطيه قيمة مميزة منبثقة عن الله ، وهي تصعيد مستمر لمنهجية الصراع والباطل من حيث كونها دولة الحلم اليهودي الزائف كوطن لشعب الله المختار وكون هذا الشعب المختار مميز عن البشر ومنفصل عنهم ، وهذا المظهر رافق اليهود على مدى القرون وكان وراء علوهم وإفسادهم كما كان وراء عزلتهم وخراب بيوتهم وهم الذين قالوا: (ليس علينا في الأميين سبيل) (آل عمران 75) .. هم الذين أبدعوا الأنظمة الربوية أس الرأسمالية والاستغلال والاحتكار.

2- تمثل إسرائيل خطراً مباشراً ويوميا على الشعب الفلسطيني الذي اغتصب أرضه وتشرد جزء مهم منه جيلاً وراء جيل ومن منفي إلى منفي ، ومن بقي منه داخل إطار الاحتلال يعاني يومياً من الاضطهاد المستمر من قبل رجال الأمن وجنود الجيش والمستوطنين ، من صاحب العمل ومن كل مستويات السلطة التي تحدد للمواطن الفلسطيني كمية الماء التي عليه أن يشربها ويروي بها زرعه إن وجد وإن لم يصادر بعد ، وتحدد كمية الكهرباء التي ستمر إلى قريته أو بيته ، تؤثر على مستوى طبق الإفطار والغذاء والعشاء وتتدخل أحياناً في مستوى التعليم الذي يمكن له أن يصله!! إما محاولات التدمير الأخلاقي والفكري والأمني والسياسي التي تمارسها السلطة فلا تقف عند حد ، باختصار إن المواطن الفلسطيني محاصر بالخطر الصهيوني المباشر واليومي الذي يحصي عليه أنفاسه ويمنعه بالقوة من ممارسة حياة كريمة.

3- تتجاوز حدود تأثير إسرائيل على المسلم الفلسطيني إلى كل المسلمين والعرب من حول فلسطين ، حيث القصف الوحشي للقرى الانعزالية المعادية للإسلام وفلسطين وصولاً إلى غزو واحتلال بيروت 1982م، واستمرار احتلال الجنوب اللبناني ، وبالنسبة للأردن فإن شبح إسرائيل يؤثر في سياسته عسكرياً وسياسياً واقتصادياً كما لا يؤثر أي عامل آخر ، فقد خسر الملك الأردني نصف مملكته ومنحها لإسرائيل عام 1967 بشكل مريب ، وقاسي الأردنيون بعد ذلك وإلى ثلاث سنوات متتالية من إسرائيل مباشرة ، كما عانوا من قبل ومن بعد وما يزالون.

أما في مصر فقد دخلت إسرائيل كل بيت .. مرة بالحرب ومرة بالسلام المدنس، لقد عانى الشعب المصري في كل القرى والنجوع ، في أبو زعبل وبحر البقر كما عانى عشرات الألوف من الجنود المصريين من أقسى الإعياء والتعب والمهانة في صحراء الجوع والعطش .. في سيناء.. واليوم عليه أن يبتسم في وجوه قاتليه ويستقبلهم ـ مرغماً ـ بالترحيب ويركن إليهم ويتبعهم.

4- كما تشكل إسرائيل خطرا حقيقياً على كل أبناء الأمة الإسلامية من طنجة الى جاكرتا ومن استانبول إلى لاجوس ، ومن أقصى الشرق إلى أقصى الغرب وذلك من خلال وعي اليهود بالإسلام كنقيض أساسي وكامل لهم مما يدفعهم إلى ملاحقة المسلمين في كل مكان ، وقد قال أحد وزراء  دولة إسرائيل: (لو كان الأمر بيدي لركبت دبابتي من أورشليم (القدس) وما توقفت حتى كراتشي). إن الدور الإسرائيلي في ملاحقة المسلمين لا يقف عند حدود، من إريتريا إلى الفلبين إلى تايلاند إلى الهند إلى جنوب السودان وكل أفريقيا.

5- ويتعدى هذا الخطر حتى يصل إلى كل المستضعفين في العالم فعلاقة إسرائيل الوثيقة بقوى الاستكبار الدولي ومساعدتها للحكومات العنصرية والأنظمة الديكتاتورية في أفريقيا وغيرها يؤكد خطرها على مستقبل المستضعفين في العالم إضافة إلى المسلمين.

6- تقوم إسرائيل كجزء أساسي في الهجمة الغربية ونواة للحلم اليهودي الكبير بدور مهم في تكريس واقع التجزئة القائم على أرض الوطن الإسلامي  وتأكيده والدفع بإتجاه مزيد من التفتت على المستوى القومي والإقليمي والوطني والمذهبي ، ويتحدث القادة والباحثون في إسرائيل عن الفروقات المذهبية في الشرق الأوسط ويحاولون إضافة المزيد منها (كالبهائية) مثلاً كما يؤكدون على الفروقات العنصرية (كالمسألة الكردية)، ويقاومون في نفس الوقت كل محاولة للتوحيد ، ويمكننا أن نتحدث عن نظرية إسرائيلية متكاملة تعتمد الشكل الفسيفسائي كمرحلة انتقالية تمر بها المنطقة تمهيداً للهيمنة اليهودية على أرضية طائفية ، كإقامة دولة مارونية وأخرى كردية ، ودولة نصرانية ، ودرزية .. وتتحول المنطقة إلى عشرات من الدول الصغيرة المتصارعة.

7- تمثل إسرائيل أيضاً كركيزة للهجمة الغربية أداة لاستمرار هذه الهجمة الغربية وتحقيق أفضل نتائجها، وأهم وسائل الهجمة الغربية يأتي من تدمير البعد الأيديولوجي للإنسان المسلم.

والثقافة الإسرائيلية التي تحاول إسرائيل تسريبها إلى أبناء الأمة الإسلامية داخل فلسطين تعتبر أهم أدوات التغريب وتدمير الانتماء الإسلامي.. فالجنس والحرية غير المنضبطة وإسقاط القيم المرتبطة بالدين وتدمير الأسرة واحتدام صراع الأجيال وتشجيع روح المجتمع الاستهلاكي بين المسلمين.. إلخ،  هي في مجموعها خطوات متعددة باتجاه تحطيم الذات الإسلامية وصناعة ذات متغربة تحمل في داخلها كل أبعاد الاستعمار.

8- وعلى المستوى الاقتصادي تستمر إسرائيل كحارسة لمصالح الاستعمار والاستكبار العالمي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ومستخدمة أداتها العسكرية وتهديدها السياسي لاستمرار عملية النهب الاقتصادي لثروات الوطن الإسلامي والمواد الخام من نفط ومواد زراعية.

وهكذا يؤكد الواقع وعلى كل مستوى مدى خطورة إسرائيل التي تستخدم الوسائل والفعاليات الممكنة لتدمير الأمة وتصفيتها.. إنها خطر سرطاني يزداد ويمتد على حساب المسلمين في كل مكان انطلاقاً من فلسطين . إن الواقع يؤكد بذلك على خصوصية الخطر الصهيوني الذي لا يجاريه خطر ومركزيته في واقع المسلمين، إنه يدفعهم وظهرهم إلى الحائط بقسوة متناهية كما يدفعهم بالتالي إلى ضرورة التنبه إلى هذه الخصوصية ، فالتركيز على خصوصية القضية الفلسطينية بالنسبة لهم ليس مجرد تركيز على بعد ثقافي .. إنها خصوصية صراع يستهدف كل أشكال وجودنا.

المصدر: نشرت هذه الدراسة ككتاب محدود التوزيع عن شركة بيت المقدس ـ بيروت (حزيران 1989).