الهروب من الخوف إلى الخوف |
مراسلنا من غزة يقص علينا كيف فرض الطفل الفلسطيني وجوده بقوة على ساحة الأحداث، و كيف سطر بدمه سجلا حافلا، و دفع ثمناً غالياً من أجل أن يعيش الأباء. |
وائل بنات |
![]() |
|
![]() |
|
"أطفال فلسطين كبروا قبل الأوان و عاشوا مرحلة الشباب والرجولة في طفولتهم تربوا على كره الاحتلال و هو ما ترك داخلهم آثارا نفسية سيئة عززتها وحشية الاحتلال". |
مشاهد حية
سحر بنت التاسعة أثارت الأحداث مخاوفها و دب الرعب والذعر في قلبها، و هي متعلقة جدا بأبيها الذي تحبه كثيرا و تعتبره الحامي الوحيد لها في هذه الدنيا، خصوصا بأن والدها يعمل في الجهاز الأمني و هو معرض للشهادة ويخرج دائما حين يكون هناك إطلاق نار، كما أنه يحمل السلاح بشكل دائم.تشعر سحر بالخوف دائما و تريد النوم إلى جانب أبيها، وتشعر بألم في قدميها و خاصة اليسرى، و لا تستطيع الوقوف عليهما، و هذا الخوف دائما يجعلها مرعوبة متألمة، حيث يخرج أبوها للمواجهة و ربما لن يعود.
و تقول سحر بأن كل السحرات "بيموتوا و بيستشهدوا" لأن عمة لها اسمها سحر قد استشهدت سابقا فيعاملونها كأنها العمة التي ماتت.
و بملاحظة سحر تجد عيناها تدور في كل اتجاه تبحث عن الأمان و الراحة و تريد التكلم و التعبير بشجاعة.
و تلك كرم أربعة سنوات تتثبت بقميص أبيها و تصرخ عندما تسمع صوت الانفجارات و أصبحت تشكو من آلام في رجليها وظهرها و بطنها.
و عمرو يرفض أن يرسم حديقة و يرسم سمكة رأسها على شكل صاروخ، و يرسم سيارة على زجاجها الأمامي شبك على هيئة سيارات الاحتلال العسكرية. و كلما دخلت بيتا تسمع عن حكايات الأطفال.
![]() |
|
![]() |
|
"أظهرت الإحصاءات الحقوقية أن 30% من شهداء انتفاضة الأقصى و نحو 40% من الأسرى وآلاف الجرحى و المصابين هم من الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 عاما". |
طفولة مصادرة
و يحذر الاختصاصيون النفسيون من الآثار النفسية المدمرة لعمليات القصف و القتل على الأطفال و النساء في الأراضي الفلسطيني، و يقول د· محمود سحويل اختصاصي الأمراض العصبية و النفسية يمركز علاج و تأهيل ضحايا التعذيب "الأحداث استهدفت الأطفال بشكل كبير للقضاء على طموحاتهم وتدمير شخصيتهم وبالتالي كسر ثقة الطفل الفلسطيني بنفسه وخلق جيل مشبع بالعنف مؤكدا أننا بحاجة لعشرات السنوات للتغلب على الأزمة النفسية التي يمر بها المجتمع الفلسطيني.أما د· سمير قوتة الاختصاصي النفسي في برنامج غزة للصحة النفسية فيرى أن ما يحدث للأطفال حاليا هو نوع من الخبرات الصادمة التي تؤثر في الأطفال المشاركين في الانتفاضة أو المتابعين لها من خلال وسائل الاعلام.
وأشار د· قوتة إلى أن المشاهد الدموية التي يعايشها الأطفال أو يرونها ستبقى تصاحبهم في ذاكرتهم طوال السنين وتجعلهم غير واثقين بأية حماية أبوية.
وتقول جليلة دحلان مدير المركز الفلسطيني للتواصل الإنساني "فتا": أطفال فلسطين كبروا قبل الأوان وعاشوا مرحلة الشباب والرجولة في طفولتهم تربوا على كره الاحتلال وهو ما ترك داخلهم آثارا نفسية سيئة عززتها وحشية الاحتلال.
و تؤكد الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال التي نفذت مشروع التدخل وقت الأزمات حقيقة أن آثار النفسية والاضطرابات التي تصيب الأطفال والكبار لا تقل ضررا عن الآثار المادية التي أحدثتها الصواريخ والقذائف.
وتشير الأخصائية النفسية باسمة الأسطة من جمعية الدفاع عن الأسرة أن هناك أعراضا عديدة ظهرت على الأطفال جراء مشاهدتهم وسماعهم أصوات إطلاق النار وقذائف المدفعية والصاروخية التي تقصف منازلهم ليلا إضافة إلى مشاهدتهم لنعوش الشهداء والدماء، و بث محطات التلفزة للأحداث الدامية والطائرات التي تحلق ليلا وتقصف البيوت بالصواريخ .. إلخ من مشاهد الرعب التي يعيشهاالأطفال.
و تضيف الاسطة أن هذه الأعراض تتمثل في خوف ورعب وآلام في البطن والرأس وصراخ بالليل وتعلق بالوالدين والتبول اللاإرادي وعادات سيئة لم تكن موجودة من قبل و عدوانية واضطرابات في الأكل والنوم، كما أن الأمهات يواجهن صعوبة في التعامل مع أطفالهن بسبب عدم معرفتهن بكيفية مساعدتهم لتخطي الأزمة التي يمرون بها وبسبب شعور الأمهات أنفسهن بالخوف و عدم الاستقرار و التوتر و القلق.
سلوك خاطئ
و تقول هالة السراج الأخصائية النفسية عن دور وسائل الإعلام في التعامل مع الأطفال في هذه المرحلة: أن بعض وسائل الإعلام اتخذت أسلوبا إعلاميا خاطئا، حيث كثفت من عرض الصور المؤلمة والبشعة لأحداث الانتفاضة، و التي تظهر فيها أشلاء الضحايا، ما أدى إلى زيادة التوتر النفسي لدى الأطفال و زرعت بداخلهم الخوف و القلق و الشعور بعدم الأمان.و تعرب السراج عن تخوفها الشديد و قلقها البالغ من المستقبل الخطير الذي ينتظر أطفال فلسطين قائلة: أتوقع مستقبلا مجهولا غير مبشر، و هذا ما هو مؤكد يوميا نتيجة الأوضاع السيئة التي تزداد وتيرتها مع مرور الزمن و لا يوجد أمامنا أي خيار آخر للتفاؤل لأننا نواجه حربا شرسة قد تقضي مع الأيام على الأخضر واليابس في هذا الوطن المحتل.
![]() |
يتدافعون للشهادة
كما قلب الأطفال الفلسطينيين قاعدة علم النفس التي تقول: "عندما يتعرض الطفل لصدمة نفسية يبدأ في الابتعاد عن مسبباتها و يتراجع عن المشاركة في فعالياتها"، واعتمد هؤلاء الأطفال نظرية جديدة خاصة بهم، حيث أثبتت دراسة ميدانية بعنوان "تدافع الأطفال الفلسطينيين نحو الاستشهاد" للدكتور فضل أبو هين مدير مركز التدريب المجتمعي وإدارة الأزمات بغزة أن 90% من الأطفال الذين أجريت عليهم الدراسة و تتراوح أعمارهم بين 9-17سنة أبدوا موافقتهم على المشاركة في فعاليات الانتفاضة فيما شارك فيها فعليا 42% ، و أظهرت النتائج أن مشاركتهم جاءت وسط توقعات بنسبة 45% بالتعرض للإصابة من رصاص الاحتلال فيما تمنى 72% منهم الاستشهاد.و ثمة نتيجة ذات دلالات مهمة أظهرتها دراسة أبو هين حيث اعتبر 48% منهم تدافعهم نحو الاستشهاد نتيجة لشعورهم بعجز القيادة، و خذلان الكبار لم تمكنهم من حمايتهم وتوفير الأمن لهم.
كما أظهرت الإحصاءات الحقوقية و الإنسانية أن 30% من شهداء انتفاضة الأقصى و نحو 40% من الأسرى و آلاف الجرحى والمصابين هم من الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 عاما.
و أوضح تقرير للهيئة المستقلة لحقوق المواطن أن جيش الاحتلال و مستوطنيه قتلوا أكثر من مائة طفل فلسطيني خلال العام 2000 وجرحوا أكثر من 2700 طفل.
وحسب مصادر الحركة العالمية للدفاع عن الأطفال فقد قتلت قوات الاحتلال 94 طفلا منذ بدء انتفاضة الأقصى وحتى نهاية العام 2000 وجرحت أكثر من 3500 طفل تراوحت إصابتهم بين خطيرة ومتوسطة وطفيفة ، ومن بين الإصابات 153 إصابة في العين ، 14منها أدت إلى فقد إحدى العينين لدى الأطفال المصابين علاوة علي الإعاقات الجسدية الدائمة لهم.
و يقول وزير الصحة د· رياض الزعنون: انه باستشهاد الطفلة إيمان حجو يكون عدد الشهداء الأطفال ممن هم دون الثامنة عشرة بلغ 130 طفلا منذ اندلاع انتفاضة الأقصى في الثامن والعشرين من أيلول الماضي حتى الثامن من الشهر الجاري.
و سجناء أيضا!
و لم يقتصر العنف ضد الأطفال على القتل أو الخوف بل والسجن أيضا حيث بلغ عدد الأطفال الفلسطينيين الذين اعتقلتهم إسرائيل و زجت بهم مع السجناء الجنائيين الإسرائيليين الذي حاولوا الاعتداء عليهم جنسيا وجسمانيا.و بلغ عدد المعتقلين من الأطفال دون سن الثامنة عشرة منذ بدء الانتفاضة أكثر من 250 طفلا مازال 120 منهم قيد الاعتقال من بين نحو 800 معتقل فلسطيني حسب مؤسسة الضمير لرعاية السجين و حقوق الإنسان حيث يتعرضون لشتى أنواع الاعتداءات و المضايقات و عمليات سلب و نهب ممتلكاتهم من قبل السجناء الجنائيين.
و قد تعرض الطفل الأسير محمد عطا زغلول من سكان قرية حوسان قضاء بيت لحم إلى التعذيب الشديد في معتقل عتصيون بعد أن تم الاعتداء عليه ووضعه في برميل ماء بارد فأصيب بتشنجات وفقدان الوعي نقل اثرها إلى المستشفى، أما الطفل ناصر زيد من مخيم الجلزون فعمل الاحتلال على عزله في زنزانة انفرادية مقيد اليدين والقدمين دون غطاء يقيه البرد.
و لا غرابة في إقدام محكمة إسرائيلية في القدس بإصدار حكما في منتصف يناير الماضي يقضي بفرض الإقامة الجبرية دون تحديد مدة تلك العقوبة الجائرة على الطفل محمد عابد القزعة 14 عاما في منزل أقاربه بشعفاط كما تتعامل مع مسؤولي تنظيمات و قادة ميدانيين و سياسيين.
كما أقرت المحكمة العسكرية الإسرائيلية أحكاما قاسية ضدهم منها أحكام بالسجن مدة 6 أشهر و غرامة مالية تقدر بـ 2000 شيكل أي ما يعادل 500$ ، اذا كانت التهمة الموجهة للطفل رشق الحجارة لمرة واحدة و لم يصب أحد من جنودها ذاك اليوم، و في حال إصابة أحدهم خلال المواجهات في يوم اعترف فيه بعض الأطفال بأنهم شاركوا فيها يحكم عليهم جميعا بالسجن مدة سنة و نصف مع غرامة مالية.
و مدارسهم لم تسلم
و استخدم الاحتلال الإسرائيلي أسلوبا آخر في ترويع الأطفال وتمثل ذلك في القصف البري والجوي والبحري لعدد من المدارس ومحيطها بالصواريخ والدبابات والأسلحة الرشاشة وإلقاء قنابل الغاز عليها ، كما حول عددا منها إلى ثكنات عسكرية وحرم الطلاب من الالتحاق بمقاعدهم الدراسية ، ودمر عددا آخر، وحسب تقرير أعدته وزارة التربية والتعليم حول أثر الحصار العسكري و الاغلاقات فقد استشهد 64 طالب وطالبة وجرح 2000 آخر.و قد خلفت حالات الاستشهاد والإصابات في صفوف الطلبة وكذلك القصف الصاروخي واعتداءات قطعان المستوطنين آثارا نفسية عميقة تطاردهم في أحلامهم و أصبح تركيزهم في التعليم نحو الخوف و عدم الأمان و تفشي حالات الرعب عند الطلبة خاصة وان صورة القنص الإسرائيلي التي تعرض لها الطالب محمد علي الشاعر في الصف العاشر و إصابته برصاص متفجر في صدره وهو واقف على مدخل مدرسته في ذكور تقوع الثانوية لازالت ماثلة أمام عيون الطلبة ورسمت صورة كيف يتفننون في قتل الأطفال.
دور الآباء
و تطالب السراح الآباء باتخاذ دور أكبر في حماية أبنائهم وتوفير الجو النفسي الملائم لهم و تخطي حالات الصدمة العصبية بأمان مشيرة إلى أن هناك طرقا و أساليب كثيرة أهمها عملية التوعية و كيفية التعامل مع هذه الآثار، ولابد للآباء من التحكم بردة فعلهم اللازمة و محاولة عدم اظهار خوفهم و قلقهم لأطفالهم، و الإجابة على أسئلتهم حول الأحداث بشكل صادق وبما يتناسب مع مرحلتهم العمرية، وضرورة شرح الحدث الصادم للطفل بشكل واضح و اعطاء معلومات صحيحة عن الحدث و تشجيعه على التعبير عن مشاعره ومخاوفه، و ذلك بإشعاره بأهمية ما يقول عن طريق الاستماع الجيد له و مدحه و مساعدته على التعبير بكلمات بسيطة.و عند الحديث عن أمور تخيفهم يجب الحديث عنها شيئا فشيئا و منحهم راحة مستمرة أثناء ذلك بتوفير جلسة مريحة وجعله يشعر بأمان في ذات الوقت ، ومحاولة إبعاد أي تصور مخيف عن تفكيره إضافة لضرورة مشاركة الطفل في الرسم والغناء، و تأليف القصص و تكليفه بأعمال صغيرة في المنزل أو المدرسة ليشعر بكفاءته و ينفس عن التوتر الموجود داخله.
تحت خيوط الشمس
"نحلم أن نعيش في بيوتنا آمنين، نلهو بين الحقول والبساتين ، تحت خيوط الشمس الذهبية، ننعم بالأمن والأمان بعيدا عن أزيز الرصاص ودوي الانفجارات، لا نريد أن نموت، بل نريد أن نحيا أحرارا كما ولدتنا أمهاتنا أحرارا" هذه بعض أحلامنا، و هذا صوتنا، فمن لنا يحمينا نحن أطفال فلسطين من شظايا الصواريخ و القنابل و رصاص الاحتلال؟!© May 2001 arabia online Ltd. |